شبكة المعلومات الجديدة


النخبة السياسية السودانية و أزمة العقل التبريري .. بقلم: زين العابدين صالح عبد الرحمن


النخبة السياسية السودانية و أزمة العقل التبريري .. بقلم: زين العابدين صالح عبد الرحمن

كتب توفيق المديني الصحافي و الكاتب التونسي في إحدى مقالته بعنوان " الحرية بين النظرية و الممارسة" تعريفا لقضية الحرية يقول ( إن مفهوم الحرية، يعني غياب العقبات و العراقيل أمام طريق الاختبارات التي قد يقرر الإنسان السير عليها، ليس طريق الاختبارات الفعلية فقط، و إنما طريق الاختبارات الكامنة أيضا)
و هناك علاقة وطيدة جدا بين الحرية و أزمة العقل، أيًن كان انتماء هذا العقل، لآن غياب الحرية تدفع الشخص للتبرير، و تراكمات التبرير في الخطاب السياسي و الثقافي، يؤدي لتزيف الوعي، الذي ينتج أزمة العقل، و من إشكالية العقلية المأزومة، إنها تجعل النخبة السياسية عاجزة من الخرج من دائرة الأزمة، لأنها سوف تستخدم ذات فكرها و أدواتها التي ساهمت في إنتاج الأزمة، و هي عقلية لا تبحث عن الأسباب الرئيسية التي أنتجت هذه الأزمة، لأنها تجد نفسها تواجه ذاتها، و تواجه تحديات، لا تملك الفكر و لا الأدوات التي تساعدها علي مواجهة هذا التحدي و تفكيك وحداته، فليس أمامها غير أن تنتج ذات بضاعتها المأزومة, و هذه الحالة تعاني منها النخبة السياسية السودانية، في المعارضة، و في الحكومة التي تتحمل استمرارية هذه الحالة، و تعتقد إن استمرارية الوضع، سوف يضمن لها الاستمرارية في السلطة، و في ذات الوقت إن المعارضة تدير الأزمة بذات العقلية المأزومة، فهي لا استطاعت أن تجدد أدواتها، و لا استطاعت أن تجد لها علاقة وطيدة، و جدلية مع الحركة الجماهيرية، لكي تدفع بها ساحة الفعل السياسي، فهي تجتر خطابها.
فالسلطة، في مسيرتها التاريخية، قد خلقت البيئة التي أدت إلي أزمة العقل السياسي، استخدمت العديد من الوسائل الأيديولوجية، منها الإعلام و التربية، و أصبح الإعلام الرسمي يلعب دورا مباشرا في تهيئة البيئة التي تعيد إنتاج الأزمة، من خلال البرامج و اللقاءات و الحوارات، فهي برامج مدروسة بعناية، و لها تأثيراتها علي المستويات المختلفة في المجتمع، فمثلا في برامج الحوارات السياسية، نجد إن المتحدثين، هم من الحزب الحاكم و السلطة التنفيذية، و من عناصر يمثلون الأحزاب التي صنعتها السلطة، فهؤلاء، ليس لديهم علاقة بمنهج نقدي، إنما جميعهم يوصفون الحالة و يبررون أخطائها، فالرأي الأخر مهمته أن يقدم رؤية أخرى للحل، الأمر الذي يجعله يحرك حالة الوعي في المجتمع، و تساعد علي تحرك الوعي الجماهيري، الذي بدوره يضغط في اتجاه الحلول، أو بمعني أخر تصبح الحركة الجماهير مشاركة بفاعلية في القضية المطروحة، من خلال معرفتها بالرؤيتين، أو ربما تتعدد الرؤى المتطلعة للحل، هذا الفعل هو الذي يؤدي خيارات للعقل لكي يغادر أزمته، و في جانب أخر، نجد جميع القنوات الرسمية و الإذاعات، تقدم عرض الصحف الصادرة بذات الطريقة، لا تتعرض للموضوعات التي تقود إلي رأيين، نما تريد فقط أن تسوق رؤية السلطة الحاكمة فقط، و البرامج هي محاولة لشرح الحالة أو الحدث، ليس فيه البعد التحليلي الذي يسبر عمق المشكلة، بسبب إنها درجت علي استضافة الصحافيين، الذين تعتقد إنهم أقرب للسلطة سياسيا منها للمعارضة، و امتنعت هذه القنوات عن استضافة من يحمل رائيا مخالفا، لذلك لم يستطيع أن يلعب الإعلام دورا إيجابيا في الأزمة السودانية، و عجز حتى في قيادة و دفع النخب السياسية، لكي تقديم بمبادرات تسهم في الحل، إذا الأدوات التي لها دورا فاعلا في اختراق الأزمة، و تفكيك معضلاتها، هي أدوات مستلبة من قبل السلطة، و توظفها بما يخدم أهدافها، و هنا لا يمكن أن تكون أهدافا من أجل الوطن، مادام هناك شق غائب بالفعل العمد، من قبل السلطة المتحكمة في مؤسسات الدولة، فالرأي الواحد هو الذي أوصلنا لهذه الأزمة، فكيف يكون الحل بذات الرأي الذي استمر أكثر من عقدين .
و في الجانب الأخر، نجد إن المعارضة، عجزت أن توحد نفسها، و تقدم رؤية متفق عليها، تشكل برنامجا سياسيا بديلا عن برنامج الإنقاذ، الذي فشل في تحقيق السلام و الاستقرار و التنمية، وظلت القيادات هي نفسها لا تتغير و لا تتبدل، 25 سنة تقود المعارضة دون أن تحقق فعلا إيجابيا، و دون أن تحدث تغييرا في توازن القوة لمصلحة الحل، و طوال هذه المسيرة لم تقدم نقدا لمسيرتها التاريخية، أو تفتح المجال لرؤى أخرى، فشلت حتى في أن تستقطب العدد الكبير من نخب السودانيين المتواجدين في الخارج، كان من المتوقع أن تعقد المعارضة مؤتمرا سودانيا بالخارج، تقدم فيه أوراق متعددة في التنمية و الاقتصاد و الثقافة و الإعلام و السياسة و غيرها، لكي تشرك أكبر قطاع من النخب السودانية في حل المشكل السودان، و تجعله برنامجها السياسي، و تستصحب معها العديد من النخب الفاعلة و العقليات ذات الفكر، لكي تفتح أمامها الطريق لاستقطاب واسع للجماهير، من خلال طرح البرنامج عليها و إدارة الحوار حوله، كانت قد فرضت شروط الحل و توجهه، و لكنها فشلت في تحقيق ذلك، أكتفت أن تتنقل من عاصمة إلي أخرى، من باريس إلي بون و أديس أبابا، و غيرها من عواصم العالم، بذات العقليات و الشخصيات، دون أن تقدم جديدا، هذا المسرح العبثي استمر موازيا لمسرح السلطة، عقليات تبريرية، فقدت أهليتها، و لكنها متمسكة أن تسير في ذات الاتجاه، و بذات الوسائل، هذه البيئة التي فرضتها المعارضة، هي لا تؤهلها أن تخترق حالة الركود السياسي، لأنها بيئة خلقتها بنفسها، و لا تنتج غير العقليات المأزومة، و سجال و خصومات بينها، تؤكد إن سيوفها في اتجاه بعضها و قلوبها شتي.
أعجبني مقالا في أحدى المواقع العراقية بعنوان " العقل السياسي العراقي" للكاتب العراقي حامد علوان الكبيسي يقول فيه ( العقل السياسي العراقي كله، يحتاج إلي وعي وطني للمراحل التي يجتازها العراق، و ليس النظر لتحقيق منافع شخصية، حتما ستؤول للزوال بعد حالة القلق و الاستقرار التي يصنعها أعداء العراق في الداخل و الخارج، من أجل هذا يلزم العقل السياسي العراقي، أن يشعر بالمسؤولية الوطنية التي هي من تهب الشرعية لمن يمثلها) و هذا ما تحتاجه النخبة السياسية في السودان، أن تجعل الوطن هو الأول في كل تطلعاتها، فالسلطة تتهم المعارضة إنها تتسبب في استدعاء الخارج لكي يكون حاضرا في المشكل السوداني، و لكنها لا تسأل نفسها، ما هي الأسباب التي تدفع هؤلاء الاستعانة بالخارج؟ فالصراع و النزاع، الذي يصل حد حمل السلاح، و تشريد المواطنين من ديارهم، و يجعلهم نازحين، تسقط كل الخطوط الحمراء، و تتعطل القواعد و القانون، فدائرة الحرب هي التي تفرض شروطها، لذلك الاتهام يحتاج لسؤال معاكس، لماذا تحاول النخبة الحاكم أن تنفرد بالبلاد، دون أن تسمح للآخرين المشاركة في إدارة بلادهم، فهي التي تساعد المعارضة أن تبحث عن نصير لها خارج الحدود.
في مقال " بعنوان الفكر المأزوم" للدكتور سليمان العودة يقول فيه ( إن الاستغراق في المشكلات و الأزمات، و إخراجها من سياقها، و نسيان تيار الحياة اللجب المتدفق بانسياب وإيجابية، و اختصار الأمة في أزمة، يحولها إلي أزمة شعورية داخلية و نفسية، و ينسيك هذا كله إن الحياة مكتظة بالفرص، و الإيجابيات، و أن الحكمة و الذكاء تحويل الأزمة إلي فرص) و يضيف قائلا ( إن التعامل السلبي مع أية أزمة هو تجاهل الواقع العام و احتكار له في أحداث أو جوانب معينة، و كل ذلك أو بعضه يكفي بجدارة لصناعة عقلية مأزومة و فكر مشوه مريض) و العقل السياسي السوداني لا يستطيع أن يتغلب علي أزمته، إلا بتغيير الواقع الذي أدي لهذه الأزمة، باعتبار إن فرض الأجندة الأمنية و جعلها هي مقدمة علي الأجندة السياسية، لها تأثيرات سالبة علي مجري الحياة السياسية في البلاد، بسبب إنها تقلص مساحات الحريات، و غياب و تقليص الحرية، هي بيئة صالحة لإعادة إنتاج الأزمة، لأنها تمنع الطاقات الإبداعية من أن تتفجر، و تخضع البلاد لسيطرة العقل المأزوم، الذي لا يستطيع أن يقدم نقدا لأخطائه، أو يحاول أن يغير أدواته، لأنه درج أن يرمي أسباب فشله علي الآخرين، و يبحث عن تبريرات للعوامل التي تسببت في فشل مسيرته التاريخية، و تعيق و تعطل الإجراءات القانونية، فالكل متهم إلا إذا أثبتوا غير ذلك، فهذا البيئة لا تساعد علي تقديم المبادرات و الحلول، و أية سعي جاد في حل المشكلة، تتطلب تغيير المنهج، و إعادة لقراءة الواقع بفكر جديد، و هذه الخطوة حتما سوف تكون علي مصالح آخرين، و هؤلاء يعلمون إن أية تغيير و تصور لتقديم مصلحة الوطن علي المصالح الأخرى، هي سوف تكون خصما علي مصالحهم، لذلك يضعون العوائق أمام أية خطوة جادة، تهدف لحل الأزمة، و لا يؤمنون إن الحوار الجاد سوف يؤدي إلي توافق وطني، فالحكومة و المعارضة تملك عقلية واحدة، التي ظلت تعمل بتكتيك واحد طوال عمر النظام، و حتى الإخفاقات في مسيرتها التاريخية لم تنقدها، و توضح للشعب لماذا أخفقت في هذه المسيرة، فالعقل السياسي السوداني ظل يتكيف مع الأزمة، و يعيش فيها بكل أريحية، مادامت الأزمة سوف تضمن لهؤلاء القيادات التربع علي قمة الهرم السياسي في المعارضة، و تسمح لهم بالتجول من عاصمة إلي أخرى، دون أن يكون هناك ناتجا لهذا التحرك، يؤدي لتغيير الواقع السياسي.
و كما يقول الدكتور محمد عابد الجابري ( أن العقل هو في النهاية التحليل لجملة من القواعد مستخلصة من موضوع ما) و الجابري لا يفرق بين العقل و الفكر، و العقل السوداني لا يستطيع أن يتجاوز الواقع، الذي يعيش فيه، دون أن يحدث تغييرا في الفكر، لكي يساعده علي هذه المهمة، و يقول الدكتور علي حرب في كتابه " الفكر و الحدث" ( المأزق لا فكاك منه إلا بتفكيك المثقف لقوالبه المعرفية و آلياته الفكرية، علي النحو الذي يخرجه من سجونه العقائدية و معسكراته الأيديولوجية، لكي يتعامل مع العالم بعقل مرن و فكر مفتوح علي الحدث. فلا يجدي نفعا أن ننفي ما يحدث لكي تصدق أوهامنا) و لكن من أين تجد النخب السياسية هذا الفكر، و هي اعتادت أن تعمل بجدل اليوم، هي أدمنت المنهج التبريري، و ما عندها من تراكم معرفي، لا يساعدها علي تفكيك قوالبها المعرفية، و آلياتها الفكرية، لكي تعيد قراءة الواقع، و تقدم أسئلة مغايرة تساعدها لفهم معضلتها، فهي نخبة لا تؤمن بالعمل الجماعي، لأنه عمل يوسع مساحة الممارسة الديمقراطية، و يضيق علي الأحادي، فهي نخبة تعودت أن تكون خلف الرايات، و تسمع ما يقال لها دون أن تقدم رأي أخر، هي نخبة تساعد علي استمرارية الأزمة لأنها تحمل الأزمة في فكرها و في ثقافتها و في ممارستها، فأي تغيير للفكر لابد من تغيير الأدوات المعطوبة، غير الفاعلة، إذا كان التطلع للتغيير و التجديد في العقلية السياسية السودانية.
في استعراضه لكتاب الزعيم يقول جورج طرابيشي ( ففي لحظات الأزمة، يبقي دور الرجال كبيرا، و الفارق بين الزعيم الاستبدادي، و الزعيم الديمقراطي، إن الأول يركب موجة الأزمة ليرقي إلي السلطة، بينما لا ينهض الثاني إلي السلطة، إلا بقدر ما يسعي إلي إيجاد مخرجا من الأزمة، و الثابت علي كل حال، إن الممارسة الديمقراطية المعاصرة تميل أكثر للاستغناء عن الزعماء) فالزعامة هي خصما علي الديمقراطية، و في دول العالم الثالث، الزعامة تؤدي إلي تركيز السلطات في أيدي الزعيم، و يتراجع دور المؤسسة، الأمر الذي يخلق النظام الاستبدادي أو الديكتاتوري، سميه ما شئت، و لكنه غير نظام ديمقراطي، يتح فرص لتقديم الرأي الأخر، و هي البيئة التي تعاد فيها إنتاج العقل المأزوم، و لا يرجي من العقليات المأزومة أن تسهم في عملية حل الأزمة التي صنعتها، و نسأل الله لها و لنا المغفرة

ليست هناك تعليقات