شبكة المعلومات الجديدة


من أساليب الإعلامي المحترف: أسلوب الجمل المبتورة

من أساليب الإعلامي المحترف: أسلوب الجمل المبتورة

د. نزار نبيل أبو منشار



هذا الأسلوب يستخدمه المحنكون الإعلاميون في لحظات يختارونها لتحقيق هدف يرونه، كزعزعة موقف خصم ما، أو إثارة الشبهة حول مسألة معينة، أو لشد انتباه الجمهور، أو لكل ذلك معاً.

وهذا النوع من الخطاب الإعلامي بحاجة إلى عناصر ليكون ناجحاً فعالاً، ولكن قبل الخوض في تفاصيل هذا الأسلوب، لا بد من التعريف به وبيان المقصد منه، لاسيما وهو ذو أثرٍ كبير.

الجمل المبتورة في اللغة هي تلك الجمل غير مكتملة الأركان والعناصر، ولكنها في الاستخدام الإعلامي تشكل مصطلحاً خاصاً بها، وهو كونها تلك الجمل التي يتم قولها بأسلوب يقصد منه إخفاء بعض مكونات الجملة أو تغيير ملامحها حتى تؤدي غرضاً ما.

ويدخل في هذا اللون من الإعلان الإعلامي القوي أسلوب الأسئلة الغامضة، أو النفي المبطن لحدث ما أو لدلالة ما، أو قضم بعض الكلمات لتكون الجملة في أذهان السامعين بحاجة إلى تتمة منهم.

في الحقيقة، إن هذه الجمل المبتورة تحمل دلالات كبيرة على مستوى الخطاب الإعلامي لكونها تستحث السامع والمتابع على مشاركة الناس له فيما يطرحه ويريده فيها، ليستفز أذهانهم بما يقول.

وغالباً ما يأتي ذكر هذه الجمل عند مفاصل الحديث، وبمعنى آخر عند بلوغ الحديث مرحلة الهجوم المؤدب، واللدغ مع الابتسام، ولكن مردودها الفعلي كبير، وأثرها على الرأي العام ليس بهين.

ومن الأمثلة على هذه الوسيلة في التخاطب أن يلجأ الإعلامي لاستخدام صيغ:" أنا لست مسؤولاً عن تحديد المسؤول في كذا، من صاحب فكرة كذا، من الذي قال عبارة "..."، اسأل الناس عن سبب كذا، الله أعلم من قام بـ...، أنا لم أفعل " الأمر الفلاني "، حادثة الموقع الفلاني لو أن لها لسان لتكلمت!! وهكذا..

حتى لو ظن القارئ أن هذه الجمل في مبناها سليمة، مستكملة لعناصرها، فإن حقيقة الإتيان بها تكون لكونها تفقد عنصراً معنوياً أو ضمنياً يتحدث عن مسألة تتصل بالخصم أو الخصوم، وتلامسهم بشكل مباشر، والتصريح بها يؤزم الموقف الإعلامي، ويستفز الخصم بشكل شخصي وعنيف، فهي من قبيل الطعن تارة، ومن التعريض تارة أخرى.

أضرب لهذا مثلاً.. أنت في مناظرة جماهيرية يشهدها خلق كثير، وتعرف عن خصمك أنه فعل أمراً لا يعرفه عنه حتى المقربون منه، كفعل فاحش، أو اختلاس، أو فشل شخصي أو تنظيمي معين، أو نحو ذلك من الأمور، واحتجت فعلاً إلى أن تلجم خصمك بعد أن ثار في لحظة ما، وبدأ ينتقص من قدرك ويهزأ بفكرك.

يكفيك أن تقول مثلاً:" أدعو زميلي الطيب إلى الهدوء قليلاً فأنا لم أسرق مال تنظيمي لتثور علي".. فعملياً، أنت لم تسرق، والمذيع أو مقدم المناظرة لم يسرق، فيبقى الطرف المقصود بهذه العبارة التي لم تلجأ إليها بسبب اتهام لك بالسرقة: هو خصمك، وقد أثبتت التجارب الإعلامية أن الخصم في الأحداث الإعلامية يكون مستنفر الذهن بصورة تجعله قادراً على فهم كل ما تقول حتى وإن لم يملك الإجابة، أو لم يرد الإجابة، وهو واقع تحت طائل الزعزعة لا محالة.

ويلجأ إعلاميون إلى هذا اللون من التخاطب في حالات معينة مثل:
1- القصد بزعزعة الخصم.
2- التجريح الشخصي بالخصم دون تصريح.
3- إحراج الشخص أمام الرأي العام.
4- إجبار خصمك على إهدار وقته اللاحق أو جزء منه في غير ما لديه في مهاجمتك، وهو الدفاع عن نفسه بالدرجة الأولى.

ولكن.. حتى تنجح في هذا الخطاب الخاص والقوي، لا بد لك من أن تجمع مجموعة من عناصر الحال حتى تبرع في مرادك ومقصودك، مثل:
1- اختيار الصيغة المناسبة، والجمل أو الجمل المبتورة التي تناسب سياق العرض.
2- اختيار الوقت المناسب لطرحها.
3- أن تقتنع أنت شخصياً بجدواها في إثارة خصمك وزعزعته.
4- أن تحمّل الصيغة المختارة عبارة واضحة يفهمها خصمك بوضوح، حتى ولو لم يفهمها المذيع أو الجمهور.
5- أن تحرص على البعد عن إتمام الجملة.. فهي وضعت أصلاً لتكون مبتورة، وإتمامها ينقلك لحال آخر من المواجهة الصريحة.

ومن حسنات هذا اللون وعناصر القوة فيه، أن الخصم، أو الطرف التي تستخدم ضده هذه العبارات لا يستطيع اتهامك مباشرة بإهانته أو القدح فيه، أو وصمه بحدث لمّحت له في جملتك، وحتى لو فعل ذلك، فإن أمامك مجالاً واسعاً لإنكار استخدامك أي تصريح واضح الدلالة في الهجوم عليه.

ولنأخذ المثال السابق الذي أدرجته كحالة تجريبية.. فخصمك الذي قلت له: " أنا لم أسرق" لن يكون قادراً على الدعوى بأنك اتهمته بالسرقة، وحتى لو فعل، فإن كلامك إلى الجمهور أو إلى خصمك أو إلى مقدم اللقاء الإعلامي بالسؤال: " ومن قال أنك سرقت " أو " من اتهمك بالسرقة " أو " هل سمعني أحد أتهمه بالسرقة " أو " لا تقوّلني ما لم أقل، أن قلت: أنا لم أسرق ولم أقل إنك سرقت " فإن هذه الردود مثلاً ستضع خصمك في حالة من الإحراج المزدوج، إحراج لأنه اتهم عملياً بالسرقة، وإحراج آخر بأنه لا يستطيع اتهامك بأنك قلت عنه سارق.

وعند قيام الخصم باختيار الرد على الشبهة المبطنة التي أثرتها ضده، فإنه في الواقع يلجأ لذلك انتصاراً لنفسه، ولكنه أمام الجمهور يبرر أمراً لم يتهمه به أحد، الأمر الذي يجعل الجمهور يستثار لهذا الحدث، ويجعله متشوقاً لسماع ما يضيفه الخصم عن نفسه أو عن الحادثة، في الوقت الذي تكون أنت فيه " خالي الطرف ".

وباختصار، فإن حنكة الإعلامي المسلم في استخدام هذا النوع من العبارات - ثقيلة المدلول ناعمة الملمس - وتمرّسه على استخدامها في مواضعها، يجعل منه خصماً قوياً لأي خصم، وعنوان قوة تضاف إلى رصيد التيار الذي يمثله

ليست هناك تعليقات