شبكة المعلومات الجديدة


صناعة الخبر وأساليب التضليل الإعلامي

 

 

 

صناعة الخبر وأساليب التضليل الإعلامي

بقلم : د. معن الطائي

اكتسبت دراسات التضليل الإعلامي أهمية متزايدة مع انتشار القنوات الإخبارية الفضائية العربية و تنامي الدور الذي تلعبه ليس فقط في نقل الخبر، بل في صياغة وتحديد توجهات الرأي العام العربي تجاه القضايا البارزة ذات الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

كان لظهور قناة الجزيرة الإخبارية الفضائية عام 1996، بالتزامن مع إغلاق القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية، وبدء العمل في قناة العربية عام 2003 الأثر الحاسم في رفع مستوى الوعي الجماهيري بمسائل وإشكاليات أخلاقية وفنية وتقنية، تتعلق بطرائق نقل الخبر وأساليب صياغته وتقديمه وتداوله.

لا تعتبر دراسة التضليل الإعلامي من القضايا الحديثة أو الطارئة على حقل البحث الأكاديمي والمنهجي، فيما يتعلق بممارسة النشاط الإعلامي بكافة مستوياته المقروء والمسموع والمرئي؛ فقد اعتبر النشاط الإعلامي من أقدم النشاطات البشرية التي ارتبطت بضرورات التواصل بين الجماعات وطبيعة إدارتها للعلاقات التي تربط بينها سواء على مستوى الصراع أو التعاون الثنائي، كما تم تسخير الإعلام لإدارة العلاقات التي تربط بين القوة الحاكمة والمهيمنة وبقية الأفراد داخل الجماعة الواحدة.

وطالما كان هناك نشاط إعلامي؛ فأن عمليات التضليل في أساليب نقل الخبر وتداوله، تصبح جزءا من هذا النشاط بطبيعة الحال، ولكن مع تزايد وتيرة الحراك السياسي والاجتماعي في المنطقة العربية في هذه الفترة بالذات، وتنامي الدور الكبير الذي يلعبه الإعلام في تحديد مسارات الصراع، وترجيح الكفة لصالح قوة أو جهة معينة على حساب الجهة الأخرى، من خلال طريقة نقل وتداول الخبر، يصبح من الأهمية بمكان الالتفات إلى توجهات بحثية أكاديمية متخصصة تعنى بدراسة وتحليل ظواهر التضليل الإعلامي.

في هذا السياق يأتي كتاب الباحث والأكاديمي العراقي المتخصص في شؤون الصحافة والإعلام، د. ذياب الطائي، الموسوم "التضليل الإعلامي من صناعة الخبر إلى صناعة السينما"، والصادر عن دار الينابيع، دمشق 2011، و قد وضع مقدمة الكتاب البروفيسور د. جمال السامرائي، وجاء فيها: "كتاب (التضليل الإعلامي) للدكتور ذياب فهد الطائي هو من بواكير العمل الأكاديمي المحض في بيان أسس التضليل، و كيفية صياغة الخبر المضلل من خلال أشخاص أو خبراء، للوصول إلى مغانم حياتية، أو إخفاء معالم عواقب النكسات والحروب في مجتمعنا". (الكتاب، ص 8)

و قد توزع الكتاب على أربعة فصول متكاملة، وتم تقسيم كل فصل إلى عدد من المباحث.

وتناول المبحث الأول في الفصل الأول التطور التاريخي لوسائل الإعلام، بدءً من الممارسات البدائية للجماعات البشرية، مثل قرع الطبول أو إصدار أصوات معينة للتحذير أو إشعال النيران أو استخدام الحمام في نقل الرسائل. وتطرق لعمليات نقل الخبر و تداوله والترويج للمعلومات في الحضارات القديمة مثل الحضارة البابلية والحضارة الأشورية. وحمل المبحث الثاني عنوان "ماذا نعني بالتضليل؟"، وبعد تقديم مجموعة من التعاريف لباحثين سابقين لمفهوم التضليل، يحدد الباحث التضليل بثلاث نقاط:

1- عدم تقديم المعلومات إلى المتلقي كما هي.

2- إجراء التعديلات في النص أو في الصورة بشكل مدروس و منهجي مما يؤدي إلى تغيير في المفاهيم.

3- إن هذا التعديل يهدف إلى خلق واقع جديد لا علاقة له بالواقع المتحقق فعلا، وذلك بهدف خدمة مصالح أو أغراض خاصة. (الكتاب ص 48).

و يشير الباحث إلى أن أقدم عملية من عمليات التضليل الإعلامي استطاع تحديدها بعد الدراسة والبحث هي قيام كهنة معبد الشمس في جنوب العراق بكتابة تاريخ إنشاء المعبد على أنه في عهد الملك الأكدي "مانيشا توشو" والذي كان قد توفي حتى قبل البدء بالبناء، وذلك لتبرير النفقات الباهظة التي تم صرفها وإقناع الناس بذلك. (الكتاب ص 48-49)

أساليب التضليل الإعلامي في صناعة الخبر هي مادة المبحث الثالث من هذا الفصل. يشير الباحث إلى مجموعة من الأساليب التي تندرج تحت مسمى التضليل الإعلامي وهي: التضخيم، والتعتيم، والتكرار، وإثارة الخوف، ولفت الأنظار، والكذب، والإثارة، والخطاب المزدوج.

ويؤكد د. الطائي في بداية هذا المبحث على أن "التضليل وسيلة يتم التحكم بها عبر وسائل الإعلام المختلفة والمتاحة في عمليات المنافسة، والصراع ليس بين الدول وحسب، وإنما بين الشركات - وحتى بين الأفراد - لتقديم الخبر الذي يخدم أهدافًا محددة هي ضد رغبة المتلقي، عن طريق الكذب والخداع، بهدف بلبلته والسيطرة على إرادته" (الكتاب ص 55).

يتكون الفصل الثاني من خمسة مباحث، تدور حول أبعاد التضليل الإعلامي. يتطرق المبحث الأول إلى دوافع عمليات التضليل، ومن المثير أن الباحث ينظر إلى التضليل بوصفه جزءا "من فن الاتصال في ظل المنافسة، وتتيح التقنيات الحديثة إمكانات متنوعة وهائلة لهذا التضليل، الذي تقف وراءه نظريات متنوعة بدراسة السلوك الإنساني وردود الفعل إزاء ما يقدم له" (الكتاب ص 88-89). ويظل الدافع الأساسي هو إحداث التأثير بطرقة قصدية ومبرمجة في الطرف المقابل من عملية الاتصال، وهو المتلقي.

ويدرس المبحث الثاني العلاقة بين الحرب النفسية والتضليل الإعلامي في صناعة الخبر، وهنا يكون التضليل في خدمة الحرب النفسية، من حيث أنه يهدف إلى تحقيق أكبر قدر من التأثير السلبي في الروح المعنوية للخصم وإضعافها. ويقدم الباحث نماذج تطبيقية عملية على التضليل الإعلامي الذي يتم توظيفه في الحرب النفسية من خلال تحليله للخطاب الإعلامي، وطبيعة اللغة الإعلامية المهيمنة في الصحف الإسرائيلية والإعلام الأمريكي، في كيفية تغطيته للحرب على الإرهاب والحرب على العراق.

ينتقل المبحث الثالث من المجال العسكري والسياسي إلى المجال الاقتصادي، ولعمليات التضليل الإعلامي التي تشنها الشركات الاحتكارية الكبرى ضد بعضها البعض، ويندرج تحت هذا النمط من التضليل إطلاق أخبار كاذبة أو إشاعات غير صحيحة من أجل التأثير على سوق تداول الأسهم والبورصة؛ أو لرفع أسعار منتج معين، كالنفط أو الذهب. كما يتم تحليل ودراسة أمثلة على عمليات التسويق والترويج الإعلامي لمنتجات معينة، ومنها: إعلانات شركة البيبسي كولا وتركيزها على ربط منتجها في ذهن المتلقي بالشباب والحيوية والنشاط.

أما المبحث الرابع فيعنى بدراسة التضليل الثقافي، ويوضح المبحث كيف تحولت الثقافة إلى سلعة يتم تداولها والترويج لها، وتحقيق معدلات عالية من الربحية من وراء ذلك. فمع نهاية السبعينيات من القرن الماضي تزايد الحديث عن الطرائق الممكنة لتحويل الثقافة إلى منتج يتم تسويقه على مستهلكين يسعون لتملكه. يشير الكتاب إلى أن "في عام 1978 تبنى الوزراء الأوروبيون المسئولون عن الشؤون الثقافية مفهوم (الصناعات الثقافية)، من هذا التطور في مفهوم الثقافة أصبح الطريق ممهدًا لدراسة دور الإعلام ونشاطاته المتنوعة، فيما يسمى صناعة المعرفة، والذي دفعته آليات الاتصال المختلفة إلى ما يمكن تسميته بمجتمع المعلومات" (الكتاب ص 128).

ويسعى التضليل الثقافي إلى خلق تأثير إعلامي هائل من أجل التأثير على ثقافة الشعوب والسيطرة عليها، أو إحلال ثقافة جديدة مكانها. "إن هذه الإنزياحات مدروسة بعناية ومخطط لها بدقة متناهية" (الكتاب ص 129).

ويرتبط التضليل الثقافي بصناعة السينما، وخصوصًا في أمريكا، من أجل تحقيق غايات معينة. والتضليل في السينما هو موضوع المبحث الخامس والأخير من الفصل الثاني، وفيه يدرس الباحث الدور الكبير لصناعة السينما في عمليات التضليل الثقافي والعسكري والسياسي.

ينتقل الباحث في الفصل الثالث إلى الجانب الفني من دراسة التضليل في صناعة الخبر، و المقصود به هنا هو الخبر بحد ذاته. فيوضح المبحث الأول تعريف الخبر من وجهة النظر الإعلامية، ويشرح المبحث الثاني عناصر الخبر؟

أما المبحث الثالث فيتناول مصادر الخبر. في هذا الفصل يشدد الباحث على ضرورة التفريق بين الخبر وبين أنواع التحرير الصحفي الأخرى مثل التحقيق والريبورتاج. ثم يشير إلى عدم اتفاق الباحثين بصورة عامة على تحديد مواصفات معينة للخبر، ومن الصفات التي يفترض توافرها في الخبر في الإعلام؛ الحداثة، والموضوعية، والإثارة، والأهمية، والمنافسة والصراع، والتوقيت والتماثل. وتنقسم مصادر الخبر إلى مصادر متخصصة، كالمراسلين ووكالات الأنباء المتخصصة والوثائق، ومصادر غير متخصصة أو طارئة، كالشهود العيان ورسائل واتصالات الجمهور.

ومن الجدير بالذكر أن المصادر غير المتخصصة للخبر بدأت تحتل مكانة بارزة و مهمة في العمل الإعلامي، وذلك من خلال ظهور ما أصبح يعرف "بصحافة المواطن"؛ حيث ساعدت التطورات الهائلة الحاصلة على صعيد وسائل الاتصال والتكنولوجيا على تحويل كل مواطن يحمل هاتفا محمولا أو آلة تصوير و لديه اتصال بشبكة الإنترنت إلى مراسل أو مندوب يقوم بنقل الحدث كما هو على الأرض، بالصوت والصورة، وبالسرعة الممكنة.

ويستمر الفصل الرابع والأخير في إغناء القارئ المتخصص والعادي أيضا، من خلال تقديم تفاصيل إضافية تتوزع على أربعة مباحث هي؛ تحرير الخبر، والقوالب الفنية لتحرير الخبر، وأقسام الخبر، وأنواع الخبر حسب الوسيلة الإعلامية.

ويؤشر الباحث وجود أربعة نماذج من للأخبار ذات ملامح وسمات متمايزة وهي؛ نموذج المرآة، والنموذج الحرفي، والنموذج المؤسساتي، والنموذج السياسي. بينما ينقسم الخبر من حيث التحرير إلى خبر مركب وخبر بسيط. ويتطرق المبحث الأخير إلى تقديم سمات ومواصفات الخبر الصحفي، والخبر الإذاعي، والخبر التلفزيوني.

لقد نجح د. ذياب الطائي في تقديم كتاب يتناول موضوعا هاما وحيويا، بأسلوب يبتعد عن التعقيد والتنظير، دون التضحية بمتطلبات البحث الأكاديمي والعلمي. ومما زاد في أهمية الكتاب: الأمثلة والإحالات العملية والنماذج المتنوعة من الأخبار المنقولة عن العديد من الصحف والإذاعات والقنوات الفضائية العربية والغربية، التي قام الباحث بإدراجها وتحليلها وربط النتائج العملية بالمقدمات النظرية. وأجدني أتفق مع رأي البروفيسور جمال السامرائي - والذي اختتم به مقدمته للكتاب بقوله، "أعتقد على قناعة بأن ما قدمه الكاتب هو كتاب أكاديمي لا يستغني عنه أي باحث أو طالب علم، إضافة إلى أنه كتاب علمي سلس وجميل، لا يمكن لأي مثقف أن يتغاضى عنه"


ليست هناك تعليقات